فصل: الفائدة السابعة: المكلفون ثلاث فرق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفائدة السابعة: المكلفون ثلاث فرق:

دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق: أهل الطاعة، وإليهم الإشارة بقوله: أنعمت عليهم، وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله {غير المغضوب عليهم} وأهل الجهل في دين الله والكفر وإليهم الإشارة بقوله {ولا الضالين}.
فإن قيل: لم قدم ذكر العصاة على ذكر الكفرة؟ قلنا: لأن كل واحد يحترز عن الكفر أما قد لا يحترز عن الفسق فكان أهم فلهذا السبب قدم.

.الفائدة الثامنة: تفسير معنى غضب الله على اليهود:

في الآية سؤال، وهو أن غضب الله إنما تولد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه، فهذا العلم إما أن يقال إنه قديم، أو محدث، فإن كان هذا العلم قديمًا فلم خلقه ولم أخرجه من العدم إلى الوجود مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العذاب الدائم، ولأن من كان غضبان على الشيء كيف يعقل إقدامه على إيجاده وعلى تكوينه؟ وأما إن كان ذلك العلم حادثًا كان الباري تعالى محلًا للحوادث، ولأنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر، ويتسلسل، وهو محال، وجوابه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.

.الفائدة التاسعة: امتناع من أنعم الله عليه من أن يكون مغضوبًا عليه:

في الآية سؤال آخر، وهو أن من أنعم الله عليه امتنع أن يكون مغضوبًا عليه وأن يكون من الضالين، فلما ذكر قوله أنعمت عليهم فما الفائدة في أن ذكر عقيبه {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}؟ والجواب: الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف، كما قال عليه السلام: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» فقوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} يوجب الرجاء الكامل، وقوله: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} يوجب الخوف الكامل، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه، وينتهي إلى حد الكمال.

.الفائدة العاشرة: الحكمة في جعل الله المقبولين طائفة واحدة والمردودين فريقين:

في الآية سؤال آخر، ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة وهم الذين أنعم الله عليهم، والمردودين فريقين: المغضوب عليهم، والضالين؟ والجواب أن أن الذين كملت نعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فهؤلاء هم المرادون بقوله: أنعمت عليهم، فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] وإن اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32] وهذا آخر كلامنا في تفسير كل واحدة من آيات هذه السورة على التفصيل، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

{غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضالين}.
اختلف في: {المغضوب عليهم} و: {الضالين} من هم؟ فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسرًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث عَدِي بن حاتم.
وقصة إسلامه، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، والترمذي في جامعه.
وشهد لهذا التفسير أيضًا قوله سبحانه في اليهود: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [آل عمران: 112] وقال: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} [الفتح: 6] وقال في النصارى: {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السبيل} [المائدة: 77].
وقيل: {المغضوب عليهم} المشركون.
و{الضالين} المنافقون.
وقيل: {المغضوب عليهم} هو مَن أسقط فرض هذه السورة في الصلاة؛ و: {الضالين} عن بركة قراءتها.
حكاه السُّلَمِيّ في حقائقه والماوردي في تفسيره؛ وليس بشيء.
قال الماوردي: وهذا وجه مردود؛ لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار وانتشر فيه الخلاف، لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم.
وقيل: {المغضوب عليهم} باتباع البدع؛ و: {الضالين} عن سنن الهدى.
قلت: وهذا حسن؛ وتفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم أوْلَى وأعلى وأحسن.
و{عليهم} في موضع رفع، لأن المعنى غضب عليهم. والغضب في اللغة الشدّة. ورجل غضوب أي شديد الخُلُق. والغَضُوب: الحية الخبيثة لشدّتها.
والغَضْبَة: الدَّرَقَة من جلد البعير يُطوى بعضها على بعض؛ سُمِّيت بذلك لشدّتها.
ومعنى الغضب في صفة الله تعالى إرادة العقوبة، فهو صفة ذات، وإرادة الله تعالى من صفات ذاته؛ أو نفس العقوبة، ومنه الحديث: «إن الصدقة لتطفئ غضب الرب» فهو صفة فعل.

.فائدة الضلال لغة:

{وَلاَ الضالين} الضلال في كلام العرب هو الذهاب عن سنَن القصد وطريق الحق؛ ضل اللبن في الماء أي غاب.
ومنه: {أَئذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْض} أي غبنا بالموت وصرنا ترابًا؛ قال:
ألم تَسْألْ فَتُخْبِرَك الدِّيارُ ** عن الحَيِّ المُضَلَّل أَيْنَ ساروا

والضُّلَضِلَة: حجر أملس يردّده الماء في الوادي.
وكذلك الغضبة: صخرة في الجبل مخالفة لونَه، قال:
أَوْ غَضْبَة في هَضْبَةٍ ما أمْنَعا

.فائدة: في قراءة {غير المغضوب عليهم وغير الضالين}:

قرأ عمر بن الخطاب وأَبَيّ بن كعب: {غير المغضوب عليهم وغير الضالين} وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين؛ فالخفض على البدل من: {الذين} أو من الهاء والميم في: {عليهم} أو صفة للذين والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف، إلا أنّ الذين ليس بمقصود قصدهم فهو عام؛ فالكلام بمنزلة قولك: إني لأمُرّ بمثلك فأكرمه؛ أو لأن: {غير} تعرّفت لكونها بين شيئين لا وسط بينهما، كما تقول: الحيّ غير الميت، والساكن غير المتحرّك، والقائم غير القاعد، قولان: الأوّل للفارسيّ، والثاني للزمخشريّ.
والنصب في الراء على وجهين: على الحال من الذين، أو من الهاء والميم في عليهم، كأنك قلت: أنعمت عليهم لا مغضوبًا عليهم.
أو على الاستثناء، كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم.
ويجوز النصب بأعني؛ وحُكي عن الخليل.

.فائدة: الاختلاف في {لا} من قوله: {ولا الضالين}:

{لا} في قوله: {ولا الضالين} اختلف فيها، فقيل هي زائدة؛ قاله الطبريّ.
ومنه قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12].
وقيل: هي تأكيد دخلت لئلا يتوهم أن الضالين معطوف على الذين، حكاه مكيّ والمهدويّ.
وقال الكوفيون: {لا} بمعنى غير، وهي قراءة عمر وأُبَيّ؛ وقد تقدّم.
السادسة والثلاثون: الأصل في: {الضالين} الضاللين حذفت حركة اللام الأولى ثم أدغمت اللام في اللام فاجتمع ساكنان مَدّة الألف واللام المدغمة.
وقرأ أيوب السختيانيّ: {ولا الضألين} بهمزة غير ممدودة؛ كأنه فرّ من التقاء الساكنين وهي لغة.
حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عُبيد يقرأ: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنس وَلاَ جَانّ} [الرحمن: 39].
فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب: دأبّة وشأبّة.
قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كُثَيّر:
إذا ما العَوَالي بالعبيط احمأرّت

.قال البيضاوي:

{غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين} بدل من: {الذين} على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال. أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من الغضب والضلال وذلك إنما يصح بأحد تأويلين، إجراء الموصول مجرى النكرة إذا لم يقصد به معهود كالمحلى في قوله:
ولَقَد أَمرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني

وقولهم: إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني. أو جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ماله ضد واحد وهو المنعم عليهم، فيتعين تعين الحركة من غير السكون.
وعن ابن كثير نصبه على الحال من الضمير المجرور والعامل أنعمت. أو بإضمار أعني. أو بالاستثناء إن فسر النعم بما يعم القبيلين، والغضب: ثوران النفس إرادة الانتقام، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية على ما مر، وعليهم في محل الرفع لأنه نائب مناب الفاعل بخلاف الأول، ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي، فكأنه قال: لا المغضوب عليهم {ولا الضالين}، ولذلك جاز أنا زيدًا غير ضارب، كما جاز أنا زيدًا لا ضارب، وإن امتنع أنا زيدًا مثل ضارب، وقرئ: {وَغَيْرُ الضالين} والضلال: العدول عن الطريق السوي عمدًا أو خطأ، وله عرض عريض والتفاوت ما بين أدناه وأقصاه كثير.
قيل: {المغضوب عَلَيْهِمْ} اليهود لقوله تعالى فيهم: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} و{الضالين} النصارى لقوله تعالى: {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا} وقد روي مرفوعًا، ويتجه أن يقال: المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله، لأن المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، وكان المقابل له من اختل إحدى قوتيه العاقلة والعاملة. والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمدًا: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ} والمخل بالعقل جاهل ضال لقوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال}. وقرئ: ولا: {الضألين} بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين. اهـ.

.قال أبو السعود:

{غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ} صفة للموصول على أنه عبارة عن إحدى الطوائفِ المذكورةِ المشهورةِ بالإنعام عليهم، وباستقامة المسْلك، ومن ضرورة هذه الشهرةِ شهرتُهم بالمغايَرَة لما أضيف إليه كلمةُ: {غير} من المتصفين بضدَّي الوصفين المذكورين، أعني مطلقَ المغضوب عليهم والضالين، فاكتسبت بذلك تَعرُّفًا مصححًا لوقوعها صفةً للمعرفة كما في قولك: عليك بالحركة غيرِ السكون، وُصفوا بذلك تكملةً لما قبله وإيذانًا بأن السلامة مما ابتُلي به أولئك نعمة جليلة في نفسها، أي الذين جمعوا بين النعمة المُطلقة التي هي نعمةُ الإيمان ونعمةُ السلامة من الغضب والضلال. وقيل: المرادُ بالموصول طائفة من المؤمنين لا بأعيانهم، فيكون بمعنى النكرة كذي اللام إذا أريد به الجنسُ في ضمن بعضِ الأفراد لا بعينه، وهو المسمى بالمعهود الذهني، وبالمغضوب عليهم والضالين اليهودُ والنصارى، كما ورد في مسند أحمدَ والترمذي فيبقى لفظُ غير على إبهامه نكرةً مثل موصوفِه، وأنت خبير بأن جعْلَ الموصول عبارةَ عما ذكر من طائفةٍ غيرِ معيَّنة مُخلّ ببدليةِ ما أضيف إليه مما قبله فإن مدارَها كونُ صراطِ المؤمنين علَمًا في الاستقامة مشهودًا له بالاستواء على الوجه الذي تحقَّقْتَه فيما سلف، ومن البيِّن أن ذلك من حيثُ إضافتُه وانتسابُه إلى كلهم لا إلى بعضٍ مُبْهَمٍ منهم، وبهذا تبين ألاَّ سبيلَ إلى جعل: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بدلًا من الموصول، لما عرفت من أن شأنَ البدلِ أن يُفيدَ متبوعَهُ مزيدَ تأكيدٍ وتقرير، وفضلَ إيضاحٍ وتفسيرٍ، ولا ريب في أن قصارى أمرِ ما نحن فيه أن يكتسبَ مما أضيف إليه نوعَ تعرُّفٍ مصحِّحٍ لوقوعه صفةً للموصول، وأما استحقاقُ أن يكون مقصودًا بالنسبة مفيدًا لما ذكر من الفوائد فكلاّ. وقرئ بالنصب على الحال، والعاملُ أنعمتَ، أو على المدح، أو على الاستثناء إنْ فُسّر النعمةُ بما يعمُّ القليل.
والغضبُ هيجانُ النفس لإرادة الانتقام، وعند إسنادِه إلى الله سبحانه يُراد به غايتُه بطريق إطلاقِ اسمِ السبب بالنسبة إلينا على مسبّبِهِ القريبِ إنْ أريد به إرادةُ الانتقام، وعلى مسبّبِهِ البعيدِ إن أريد به نفسُ الانتقام، ويجوز حملُ الكلام على التمثيل، بأنْ تُشبَّه الهيئةُ المنتزَعةُ من سَخَطه تعالى للعصاة وإرادةُ الانتقام منهم لمعاصيهم بما يُنتَزَعُ من حال الملِك إذا غضِب على الذين عصَوْه، وأراد أن ينتقم منهم ويعاقِبَهم، وعليهم مرتفِع بالمغضوب، قائم مَقامَ فاعلِه، والعدولُ عن إسناد الغضب إليه تعالى كالإنعام جرَى على منهاج الآداب التنزيلية في نسبة النعمِ والخيرِ إليه عز وجل، دون أضدادها، كما في قوله تعالى: {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وقوله تعالى: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرّ أُرِيدَ بِمَن في الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} و{لا} مزيدة لتأكيد ما أفاده: {غير} من معنى النفي كأنه قيل: لا المغضوبِ عليهم {ولا الضالين}، ولذلك جاز أنا زيدًا غيرُ ضاربٍ، جوازَ أنا زيدًا لا ضَارِب وإن امتنع أنا زيدًا مثلُ ضاربٍ، والضلالُ هو العدول على الصراط السوي، وقرئ وغيرِ الضالين، وقرئ {ولا الضالين} بالهمزة على لغة مَنْ جدَّ في الهرب عن التقاء الساكنين. اهـ.